وراء الزجاج
لم تكن الحافلة مكتظة لحسن الحظ . وجدت بسهولة مكانا شاغرا قرب النافذة . جلست بسلام و أخذت أتأمل الناس في الخارج : بعضهم يركض و الآخر آثر أن يبقى أمام واجهات المحلات المغطاة إلى أن تنقشع السحب ...
عربات مسرعة في كل الإتجاهات ، سائقون حانقون ، يسبون صاحب السيارة الذي أوقفها في منعرج (عمدا أو سهوا) ... يالها من فوضى ...
أسندت رأسي إلى الكرسي و نظرت أمامي ، كانت هناك امرأة كهلة جالسة مع ابنها ذي العشر سنوات . كان الطفل يتمتم بعبارات غير واضحة و يشير بيده كلما لمح محل ألعاب أو مرطبات ...
أما والدته فكانت تبدو منهكة ، شاردة ، تنظر إلى النافذة هائمة بوجه خال من أية تعابير . لا أدري لِمَ كنت متيقنة بأنها لم تكن ترى شيئا مما يدور في الخارج ، بل تنظر إلى انعكاس صورتها على الزجاج ، تحدق في وجهها الشاحب و عينيها المرهقتين . ثم تنظر إلى الزجاج لتخترق بنظراتها الحائرة ما وراءه من شبكات معقدة رسمتها خلاياها العصبية .
بدا كاهلها مثقلا بالأعباء . حاولتُ الغوص معها في بحر أفكارها ، علِّي أفك معها بعض الشفرات و أواسيها و لو بمجرد النظرات ...
أسندت رأسي إلى الكرسي و نظرت أمامي ، كانت هناك امرأة كهلة جالسة مع ابنها ذي العشر سنوات . كان الطفل يتمتم بعبارات غير واضحة و يشير بيده كلما لمح محل ألعاب أو مرطبات ...
أما والدته فكانت تبدو منهكة ، شاردة ، تنظر إلى النافذة هائمة بوجه خال من أية تعابير . لا أدري لِمَ كنت متيقنة بأنها لم تكن ترى شيئا مما يدور في الخارج ، بل تنظر إلى انعكاس صورتها على الزجاج ، تحدق في وجهها الشاحب و عينيها المرهقتين . ثم تنظر إلى الزجاج لتخترق بنظراتها الحائرة ما وراءه من شبكات معقدة رسمتها خلاياها العصبية .
بدا كاهلها مثقلا بالأعباء . حاولتُ الغوص معها في بحر أفكارها ، علِّي أفك معها بعض الشفرات و أواسيها و لو بمجرد النظرات ...
هي تفكر في الوضع الراهن في البلاد : عائلات تضررت من الثلوج و الفيضانات ، أطفال حفاة ، تريد أن تساعدهم و تدخل السرور على قلوبهم ...
الأزمة الإقتصادية أيضا تشغل بالها ، الإعلام المضلل ، الملف الأمني و محاسبة قتلة الشهداء ...
ربما كانت متأسفة بسبب ما تسمعه من نقاشات عقيمة حول صراعات الأحزاب و الإيديولوجيات و تهميش الأولويات ...
ربما كانت تفكر أيضا في المجازر التي تُرتكب بحق الشعب السوري ، بضحايا بابا عمرو و كرم الزيتون، بأهالي حمص و إدلب و درعا ، باللاجئين السوريين في لبنان و تركيا ...
تفكر في القصف الإسرائيلي لغزة، بالأقصى الذي يريدون اقتحامه في كل مرة ، بالأسرى الفلسطينيين، ب"هناء شلبي" المضربة منذ أسابيع عن الطعام ...
تفكر بحال المسلمين في كل مكان: بالإنفجارات المتتالية في بغداد، بقتل الجنود الأمريكيين للأفغان، بالوضع في اليمن بعد شبه الإنتخابات...
هواجسها لا تنتهي ...
هي تشعر بالقهر و العجز ، وهو ما يفسر( ربما) كل هذا الإرهاق ...
قطع حبل أفكاري اللامتناهية صوت أنثوي مألوف :" ها قد ركبنا معا في نهاية المطاف ! أتعلمين أن زوجي يعمل في الشركة المصنعة لهذه الحافلات ؟ أترين ذاك العمود قرب الباب ؟ إنهم يأتون به من مدينة كذا ، في شاحنات كبيرة ..."
نظرت إليها مبتسمة ، كان قدرنا أن نلتقي مرتين و أن تدخل قوقعتي مرتين ... لاحظت كم كانت تشبه المرأة الشاردة أمامي ، فعدت أتخيل ما يجول بخاطرها ، ولكن بطريقة مختلفة تماما، بعد أن اقترنت صورتها في ذهني بصورة جارتي :
لقد نسيت الملابس معلقة في فناء البيت، لقد تبللت بالتأكيد، و سيتطلب تجفيفها يوما أو يومين آخرين ...
إحتارت ماذا ستعد للعشاء ، وماذا ستطبخ غدا في الغداء ! ياله من تمرين يومي ممل . أسئلة قد تبدو لوهلة سخيفة و لكنها تستنفذ طاقاتها ، و تحدد مصير عائلة بأكملها ...
تذكرت والدتها العجوز التي لم تزرها منذ أسبوع لكثرة المشاغل ... تذكرت المسلسل التركي التي لم تشاهده منذ يومين، كانت تتمنى ألا تكون قد فاتتها أحداث كثيرة ... تذكرت ابنتها التي تريد شراء فستان سهرة فاخر لحظور زفاف صديقتها ، من أين لها بالمال ؟ زوجها لم يسدد بعد فاتورة الماء و الكهرباء .
هي تفكر أيضا في بيع مصوغها و نصيبها من الإرث كي تشتري قطعة أرض تبني فوقها مسكنا شاسعا . لكن يجب أن تطلب قرضا من إحدى البنوك حتى تتمكن من بناء الطوابق الثلاثة ، واحد لها و وا حد لكل من ولديها .
ابنتها ستتزوج من جارها الوسيم الثري ، لا تدري كيف ستقنع والدته بذلك ، لكنها تتمنى أن يكون من نصيبها .
ثم ، و أخيرا، ستنتقل لتمضي ما تبقى من حياتها في ذاك البيت الجديد ، ستكون حينئذ سعيدة حتما !
ستنظر ذات يوم في مرآة الحمام الجديدة ،تحت ضوء أبيض ناصع، و ستلحظ حينها خصلات شعرها الرمادية الكثيفة ، و تجاعيد وجهها الغائرة التي ما عادت مساحيق التجميل قادرة على تغطيتها ، ستبكي بحرقة...
ثم تسقط أرضا .
نظرتُ إلى الخارج ، السماء مظلمة يضيئها من حين لآخر برق خفيف ، و الأمطار لازالت تهطل بغزارة . التفت من جديد إلى جارتي التي لازمت الصمت . لا أدري أكان ذلك لعدم تفاعلي معها ، أم أنها سافرت معي في رحلتي الخيالية وفزعت لنهايتها ، فأيقنتْ مثلما أيقنتُ...
نظرتُ إلى الخارج ، السماء مظلمة يضيئها من حين لآخر برق خفيف ، و الأمطار لازالت تهطل بغزارة . التفت من جديد إلى جارتي التي لازمت الصمت . لا أدري أكان ذلك لعدم تفاعلي معها ، أم أنها سافرت معي في رحلتي الخيالية وفزعت لنهايتها ، فأيقنتْ مثلما أيقنتُ...
أنّ هذه الدنيا لا تسوى عند اللّه جناح بعوضة !
6 commentaires:
Enregistrer un commentaire