لحظات من حياة طبيبة
ها
أنا أجلس في غرفتي و أمامي حاسوب صغير،
كتاب كبير، آلة تصوير، و مبيد حشرات لقتل
الصّراصير .
الصّراصير
مخلوقات ليس لوجهها تقاسيم، تراها تُسرع
بأرجلها الرّقيقة المقرفة..
و
ما لي و الصّراصير ؟!
هلّا
جادت القريحة بكلمات ، تُوضع ـ بإذن اللّه
ـ في ميزان الحسنات؟
مكثت
أدرس مقالات حول أمراض نادرة علّي أجد
حلّا للطّفلة "يقين"
و لأمّ "مالك
الحزين".
متلازمات
نادرة، مسؤولة عن تشوّهات خِلقيّة حينا،
و عن تخلّف ذهنيّ حينا آخر.
و
تلك لَعمري، الطّامّة الدّنيويّة الكبرى.
أسأل اللّه لنا و لهم
السّلامة و العافية.
يقول
أستاذي المختصّ في الأمراض النّفسيّة
أنّ على الطّبيب ألّا ينخرط كثيرا في
المواساة و مقاسمة المعاناة، و إلّا
انقلبت حياته هو أيضا أحزانا يوميّة و
حسرات.
قد
"أتعوّد" على
بعض الشّكاوى و الآلام "البسيطة"*،
لكنّي في بعض المواقف أجدُني أمسك عَبَراتٍ
تودّ أن تنسكب خلسة من مقلتيّ، أمام طفل
جميل متوحّد*، أو أمّ
تكافح في صبر و تجلّد.
بدأت
العيادة مع زوجين سليميْن يرافقان صغيريْن
مريضيْن. أنجبا أربعة
أطفال، كلّهم صمّ بكم*.
أثناء
اللّقاء كان الطّفل الأصغر مشاغبا، كثير
الحركة، يجذب إليه كلّ ما يعترض طريقه؛
فكان أن زجره والده بشيء من الغلظة و
العنف. استأت من تصرّفه
لكنّي لزمت الصّمت، فما إن تخيّلت تفاصيل
حياته اليوميّة حتّى التمست له أكثر من
عذر.
كيف
لهما أن يؤدّبا أبناءهما و هؤلاء غير
قادرين على سماع نصائحهما؟ كيف لهما أن
يتواصلا معهم و يعلّماهم و هما لا يجدان
جمعيّة خاصّة لرعاية الصّمّ تُعينهما
على ذلك في قريتهم النّائية؟ كيف لهما أن
يحافظا على برودة أعصابهما و هما ينتقلان
بين المستشفيات و المخابر لتجهيز كلّ
الفحوصات و إعداد الملفّات الّذي سيتمّ
إثرها دراسة إمكانيّة إ جراء عمليّات
جراحيّة؟
انتهى
اللّقاء بصداع في الرّأس ، بسبب شغب
الطّفل، و صياح بقيّة الصّغار في قاعة
الإنتظار.
الصّياح
و الشّغب مصدر إزعاج و تعب.
و
لكن بعد هذا اللقاء، إستحال ذلك في ذهني
إلى نعمة لو بِيعت، لاشتُريت بالمال و
الذّهب!
ثمّ
كان دور "لميس"،
طفلة جميلة لم تبلغ السّنتين من العمر،
مصابة بمتلازمة داون*.
و
دعوني أعرب عن مدى تعاطفي الخاصّ مع هؤلاء
الأطفال بالذّات، لما أجد فيهم من مرح و
عفويّة، و ابتسامات بريئة تعلو محيّاهم
أكثر الوقت.
كانت
"لميس" نائمة
حين دخلت العيادة. والدتها
امرأة قويّة، زادها صبرها و رضاها جمالا
و وقارا.
وضعتْ
الأميرة النّائمة فوق طاولة الفحص، و ما
إن مددتُ يدي لأمسكها حتّى استيقظت
المسكينة مذعورة و ورمت بجسدها الصّغير
بين أحضاني ثمّ أسندت رأسها فوق كتفي و
قبضت بساقيها على خصري بقوّة كأنّها
تتوسّل إليّ أن أحميها من خطر محدق.
رقّ قلبي لحالها، ضممتها
إليّ و أخذت أربّت بهدوء على ظهرها حتّى
أحسست بعضلاتها المتقلّصة ترتخي تدريجيّا.
أحسست للحظة بهرمونات
الأمومة تتدفّق في شراييني، فسبحان اللّه
الّذي فطرَنا على ذلك.
فتحت
"لميس" عينيها
من جديد و أخذت تحدّق فيّ.
انتبهت إلى الزّيّ الأبيض
الّذي كسا جسدي. أدركت
المسكينة أنّها تقف بين يدي شخص لطالما
سبّب لها الإزعاج .. إنّه
الطّبيب مجدّدا. تراجعت
بسرعة و وثبت كالهرّة في
اتّجاه والدتها. و ابتسم
الجميع..
انتهت
العيادة هذه المرّة بعد منتصف النّهار
.
و
عدت إلى البيت، لأجلس من جديد أمام حاسوب
صغير ،كتاب كبير، و آلة تصوير التقطت بها
صورا من واقع البعض المرير*..
و
أيضا مبيد الحشرات، كي أقتل الصّراصير !
* أسأل
اللّه أن يشفيهم و أن يعافينا و ذرّيتَنا
2 commentaires:
Enregistrer un commentaire