(حتّى يُغيّروا ما بأنفسهم (2/الرّشوة
لن أتحدّث عن فساد الإدارات أو المؤسّسات، فهذا يتجاوز حدود معرفتي، لكنّني سأتكلّم فقط من موقعي كطبيبة مقيمة تعمل في مستشفى جامعيّ. سأذكر بعض الأمثلة، لكنّ الخطوب في الواقع كثيرة.
نبدأ مع حارس الباب الرّئيسيّ للمَشفى، يلقي عليّ التّحيّة صباحا بكلّ بشاشة، فأقول في نفسي:"ما أطيب خُلُقه!" . تمرّ الأيّام و يأتي الحارس و معه مريض:"دكتورة، هل لك أن تفحصي جاري الفقير؟"، و بعد يومين:"دكتورة هذه قريبتي جاءت من منطقة ريفيّة نائية، حالتها يُرثى لها و موعدها لا يزال بعيدا"، ثمّ بعد أسبوع:" هذا صديق، و هذا أخ، و هذا رفيق..."
أحاور نفسي:" لديه معارف كثر.. و كلّهم مرضى!"، أتخلّى وقتيّا عن حسن ظنّي و سذاجتي، فيتبيّن لي أنّه يختصّ ببشاشته الأطبّاء، و أنّ وراء هذه البشاشة أجر يُدفع لقضاء الحاجة.
يأتي دور حارس القسم. تراه يكثر من مصافحة الغرباء، يحكم قبض يده على أيديهم فتضلّ متشابكة لبرهة. قد يخطر ببالك أحاديث حول فضل إفشاء السّلام و "ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلّا غُفر لهما قبل أن يفترقا".. لكنّ تلك السّحابة الورديّة سريعا ما تنجلي. ترى طرف ورقة زرقاء يتسلّل بين اليدين، ثمّ تواصل طريقك لتكتشف الطّامّة الكبرى: الزّائرون يتجوّلون بحريّة خارج أوقات الزّيارة ليس فقط داخل القسم، بل و في غرفة الإنعاش! و ما أدراك ما غرفة الإنعاش! تلك الّتي نرتدي زيّا خاصّا لولوجها.. تلك الّتي تأوي مرضى ضعيفي المناعة.. تلك الّتي تغزوها الجراثيم القاتلة. نعم إنّها غرفة الإنعاش..
تستشيط غضبا و تحاول إخراج الزّائرين، فيصمدون أمامك. دخولهم حقّ مكتسَب.
تنادي الحارس فيغضّ طرفه بوقاحة، تتّصل بقيّم المستشفى فيجيبك إجابة العاجز الأبله:" و ما عساي أفعل لهم، تصرّفي وحدك أو اطلبي من الحارس أن يخرجهم". تستغرب للحظة ثمّ تفقد أعصابك بعد أن يأتيك أحدهم بخبر يقين أنّ القيّم نفسه يتقاسم الغنائم مع الحارس. و ينتهي بك المطاف إلى لزوم الصّمت، فتطأطئ رأسك و تواصل عملك في السّوق الإنعاشيّة.
يرد إلى ذهني ذلك الممرّض العجوز حين كنت طبيبة داخليّة في أحد الأقسام الإستعجاليّة. كان يغدق علينا ما لذّ و طاب من فواكه. كنت في كلّ مرّة أشكرله عطاءه بامتنان إلى أن صاح رجل في وجهي ذات ليلة:" لمَ لا تحترمون التّرتيب؟ أتيت منذ ساعات و دخل كلّ من جاء بعدي، ألِأنّني لم أدفع مالا لذاك العجوز؟!"
شعرت حينها بنغص في معدتي. لقد أكلتُ مالا حراما دون علمي. كانت تلك أوّل فكرة راودتني. استيقظت من شرودي و أعلمته أن لا دراية لي بما يحدث، فأنا لا أبرح المكتب منذ بداية الدّوام، لكثرة الوافدين. ثمّ خرجت و طلبت من الممرّض إدخال المرضى بنظام. لم يكتفِ صديقنا بذلك، بل صار لطول خبرته يعالج الحالات البسيطة من جروح أو خدوش، دون أن يعلم أحد، وطبعا يتلقّى مقابل ذلك أجرا.
علمتُ بعد انتهاء تربّصي أنّ رئيس القسم طرده، لا أدري إن كان بسبب الرّشوة أو لسبب آخر، لكن المهمّ في النّهاية أنّه طُرد. و أرجو أن يكون هذا مصير كلّ مرتش في الدّنيا، و سيتولّى الله حسابه في الآخرة.
هذه بعض أمثلة عايشتها شخصيّا أو حدثت لأحد من الزّملاء. لا أختصّ بحديثي هذا مستشفى واحدا و لا قسما واحدا ولا فئة محصورة من العاملين. فالظاّهرة متفشّية بين مختلف "الطّبقات".. متفشّية لدرجة أنّ المريض أو أهله قد يعرضون عليك مالا حين تخبرهم أن لا علاج له، أو حتّى حين تحسن معاملته أو تعالجه دون موعد مسبّق.. صارت العقول مبرمجة وفق قانون يقرّ بأن "لا خدمة بدون مقابل".. فإنّا لله و إنّا إليه راجعون.
نسأل الله السّلامة.
4 commentaires:
Enregistrer un commentaire