(حتّى يُغيّروا ما بأنفسهم (4/الواسطة


(حتّى يغيّروا ما بأنفسهم 1 2 3 )

كنت قد بدأت العيادة منذ أكثر من ساعة حين دخلت سيّدة لم أكن قد رأيتها في قاعة الإنتظار عند قدومي. طرقت الباب بهدوء لكنّها لم تنتظر أن آذن لها بالدّخول.
 بابتسامة مصطنعة قاطعتني و أنا بصدد فحص مريضي، قائلة: " صباح الخير دكتورة، أنا ممرّضة أعمل بالمشفى الفلاني، هل يمكنني الدّخول بعد هذا المريض؟ فليس بوسعي الإنتظار.. كما أنّني أقطن بعيدا." 
رددت التّحيّة بجفاء: "هناك من جاء من بعيد منذ الصّباح، من غير اللّائق أن أتركه ينتظر."
 لم يرق لها كلامي. ما إن فتحت فاها لتجيبني حتّى دخل الممرّض المسؤول عن تسجيل المرضى، طالبا منها الإنصراف و احترام دورها.
هي كانت ـ رغم كلّ شيء ـ مؤدّبة مقارنة بأولئك الّذين يخالون، أّنه من واجبي أنا كطبيبة أن أسمح لهم بالدّخول قبل غيرهم، و أن أرحّب بهم بحفاوة و أُنزلهم "منزلتهم" كأطر طبّية أو شبه طبّية. و عادة ما يكون هؤلاء أناسا لم يسبق لي أن قابلتهم في حياتي. 
لا أنسى ذلك الرّجل الّذي "اقتحم" مكتبي وسط زحام المرضى. كان يرتدي قبّعة و زيّا أزرقا  ملطّخا  بالدّهن. قال لي بلهجة آمرة :"أريد أن تفحصي ابنتي. أنا زميل." حدّقت في وجهه و هندامه و احترت لمعنى الزّمالة عنده. ثمّ راجعت دخوله المباغت و لهجته و نظرته المستعلية فتسلّلت إلى قلبي رغبة ملحّة في الإنتقام، لكنّي كبحت هوايَ و آثرت مراعاة ابنته الرّضيعة، فليس لها دخل في تصرّف والدها الأرعن.
 نظرت إلى كرّاس المواعيد، فوجدت مكانا شاغرا بعد شهرين. لم يكن ذلك الموعد بعيدا، فابنته ذات الشّهر الواحد في حالة جيّدة، كما أنّ التّشخيص واضح، لا يستحقّ علاجا في هذا العمر.
استشاط الرّجل غضبا و صرخ في وجهي:"أقول لك أنّني زميل، و أنّ هذه ابنتي، و تقولين لي بعد شهرين؟!"
زادت ملامح وجهي عبوسا و أعصابي توتّرا، لقد ضقت ذرعا بعجرفته: "هذا ما يمكنني فعله. ليست حالة استعجاليّة." 
احمرّت عيناه أكثر و زمجر غاضبا:"أين رئيس القسم؟ سأشكوك إلى رئيس القسم!"
أشرت بيدي في اتّجاه مكتب رئيسي:" من هنا". (و لسان حالي يقول "أُغرب عن وجهي!") .
ذهب إليه مسرعا يشكو بلهجة المستعطف قلّة حيلته، و شدّة مكر الطّبيبة.. فما كان من رئيسي إلّا أن ألقى نظرة إلى الموعد الّذي حدّدته أنا، قائلا:" شهرين؟هذا جيّد. إنّها مدّة بسيطة! ليس هناك ما يستدعي العجلة."
نظرت إلى وجه الرّجل، و كأنّي به يهوي من أعلى تلّة .. ابتسمت بمكر و انصرفت. و خرج "الزّميل" يجرّ أذيال الخيبة و الخسارة. 
أن تكون "زميلا" لا يعطيك الحقّ أن تأخذ دور غيرك، أو أن تقضي حاجة قريبك و صديقك و جارك على حساب النّاس البسطاء.
أن تكون "زميلا" لا يُلزِمني أنا أن ألعب دور الواسطة الملعونة و أؤثرك على غيرك.
أن تكون "زميلا" يعني أن تلزم مكانك و تحترم مكانتي و مكانتك.


ملاحظة: الرّجل كان عون صيانة في المستشفى، مع كامل احتراماتي.

أن تكون "زميلا" لا يعني أن تكون فوق النّظام :)

CONVERSATION

0 commentaires:

Enregistrer un commentaire

Back
to top