فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا / الجزء الأوّل



استيقظت بصعوبة. أشعر بنعاس رهيب.  الكلّ نائم. جسدي يكاد يشتعل من الحرّ.
لا رغبة لي في الكلام، تدور في ذهني آية مُذْ بدأ رمضان "إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا".
 حمّام، صلاة ثم وقفة شاردة أمام دولاب الملابس. تدور عقارب السّاعة حثيثة، و ينتهي شرودي بنفس القرار: جلبابي الأسود. إنّني أعشقه.

أصل مبكّرة إلى العمل. تعمّدت تجنّب الكلام عن طريقي إلى المستشفى، فلا شيء فيه يستحقّ الذّكر: المحلّات مغلقة، و السّاعون إلى العمل قليلون، و أنا صامتة، أستمتع بصمتي.

تعترضني ككلّ يوم
، في نفس المكان و الزّمان تقريبا، السّكرتيرة أوّلا ثمّ عاملة التّنظيف تحمل سلّة المهملات البلاستيكيّة. ألقي عليهما التّحيّة و أجلس في قاعة الإجتماعات. 

أخرج من حقيبتي مقالات علميّة أو المصحف، راجية أن لا يخ
ترق أحد دائرة صمتي فخلاياي العصبيّة لا تزال في شبه غيبوبة، غير قادرة على نقل الإشارات و التّواصل فيما بينها ..
 تجلس بجانبي زميلتي، و لا أدري كيف يحلو للبعض اللّغو صباحا. تتحدّث عن الإستعداد لزفافها، عن خاتم الألماس الّذي أهداه لها خطيبها، عن قاعة الأفراح الفاخرة الّتي ستقيم فيها الحفل. أبتسم عن مضض، ليس لقلّة محبّة لها، و لكن للا مبالاة بتفاصيل مثل تلك. أحاول تغيير مجرى الكلام بمجاملة لا تقبل جوابا و لا نقاشا طويلا :"حجابك جميل" . تشكرني باسمة ثم سرعان ما تسترسل في التّفسير : تحدّد لي نوعيّة القماش، سعره الباهظ ، محلّ الملابس الفاخرة الكائن في مركّب تجاري فاخر في حيّ فاخر، الّذي اقتنته منه...
 يمرّ اجمتاعنا كالعادة،  تقريبا نفس أسئلة الأساتذة المبرّزين و نفس الإجابات الآليّة للمتربّصين الدّاخليّين. روتين مملّ حتّى في نقاشات علميّة. عليك أن تجيب كما يريدون هم، و ليس كما تفكّر أنت. سلطة و تبعيّة فكريّة حتّى في مسائل طبّيّة. 

 يظهرون لنا عادة صورا بالأشعّة لجهاز تنفّسيّ لأحد الأطفال، و أحيانا لِفرط صِغر جسمه، ترى في نفس الإطار بعضا من جمجمة الصّغير. جمجمة كتلك الّتي نراها تُستخرَج من القبور. و يجرّني ذلك بطريقة غامضة إلى التّفكير في الدّود الّذي ينخر اللّحم و العظام في القبر. أسأل اللّه أن يؤنس وحشتنا فيه. 

ينتهي أخيرا الإجتماع و ينطلق الجميع  إلى العمل. تستفيق خلاياي العصبيّة تدريجيّا، و تواصل الآية الرّنين داخل أذنيّ، "فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا" ..

يتبع..

CONVERSATION

0 commentaires:

Enregistrer un commentaire

Back
to top