فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا / الجزء الثّاني




 هي امرأة تبلغ الخمسين من العمر تقريبا. طويلة القامة، رقيقة السّاقين،  رماديّة الشّعر، ،بيضاء البشرة، زرقاء العينين. أراها كلّ صباح في غرف الرّضّع تعمل في صمت، و إن تكلّمت بلكنتها الأعجميّة فلغاية النّصح و الإرشاد...
هي راهبة تأتي ، منذ الصّباح، مبكّرة، حاملة إناء
، صابونا للأطفال، و زيتا للبشرة. تطوف بين الغرف، تُحمّم الأطفال الّذين طال مكوثهم في المستشفى، تلاطفهم، تغيّر ملابسهم و تعطّرهم. و إن لاحظت أيّ أمر جدير بالإهتمام نبّهت الأطبّاء و الممرّضين إليه.
تفعل كلّ ذلك تطوّعا، دون أجر، أو ربّما مقابل دراهم معدودات، لا أدري.

أنظر إليها بامتنان صراحة.. و أتساءل: هل ما تقوم به عمل تبشيريّ؟
 هي لا تصرّح بذلك، و لا ترتدي صليبا، و لا زيّ الرّاهبات في المستشفى، لكنّي أعلم أنّها التحقت منذ شبابها بمدرسة الرّاهبات في مدينتي، لم تتزوّج، و "نذرت" حياتها للتّعبّد..
 هي تعمل بصمت. أو تفعل ما نسمّيه نحن دعوةً بالأخلاق. انطلقت من مبدأ دينيّ و إنسانيّ.

سمعت تلك الأمّهات
يردّدن عند مرورها "ميشال (صاحبتنا) من دنياها إلى جنّتها".
 لن أخوض
في المسائل العقديّة.
 لكنّ كلامهنّ رسم في ذهني صورة ضبابيّة، بالأسود و الأبيض، لجدار عازل يفصل زُمرة المتديّنين المسلمين عن باقي المجتمع.
 الصّورة قاتمة لا تعكس الواقع بالتّأكيد، ففي الأمّة الخير الكثير. و يكفي أن تطّلع على صفحات الانترنيت و بعض القنوات حتّى تتبيّن المجهود الجبّار الّذي تبذله الجمعيّات الخيريّة  الإسلاميّة و غيرها.
لكنّ الصوّرة منبثقة من رؤية ضيّقة للمسألة
، من زاوية شخصيّة ربّما.
 أنا أرى تلك المرأة الأجنبيّة تاركة الرّفاهة و رغد العيش في بلدها و زينة المال و البنين ..  تجوب قسم الأطفال في بلد من بلدان العالم الثّالث، و أطرح على نفسي السّؤال: و ماذا عنّي؟
كنت في البداية قد كتبت: "و ماذا عنّا؟" ، لكنّي توقّفت و راجعت الفكرة الّتي نبعت بصفة آليّة : نحن لا نستعمل ضمير الجمع إلّا حين نريد التّملّص من مسؤوليّة أو خطأ. نريد أن يتحمّل أحد ما ثقل الذّنب و عتاب النّفس معنا. نريد أن نبرّئ تلك النّفس التّائهة أو أن نخفّف عنها العبء.

لا أدري ،يا من تقرأ كلامي،  إن كنت تفطّنت إلى إعادتي لصيغة الجمع (عمدا). فقد كان من الأجدر أن أقول : "أنا لا أستعمل ضمير الجمع إلّا حين أريد التّملّص..." و لك أن تصلح الباقي، و لك أن تفكّر في الأمر مليّا و أن تحدّد موقعك إ
ن شئت.

و الآن أعود لسؤالي الأوّل: و ماذا عنّي؟


لمَ يقتصر الدّين غالبا على عبادات الجوارح؟ لمَ تقتصر المساعدة على مبالغ ترسَل عبر البنوك ، دون أن نكلّف نفسنا "عناء"ـ و الأجدر أن أقول "نعمة"ـ الإحتكاك بالمحتاجين و سماعهم و مكالمتهم؟ لمَ يبقى الجانب الإنسانيَ مكبوتا رغم حضوره في القلب بقوَة ؟ لمَ يختفي وراء خجل ليس له مبرّر؟ لم يكون مدّ يد العون لانسان محتاج متعفّف صعبا ؟ لمَ ينتظر غالبا من يدفعه و يحفّزه باستمرار رغم تأصلّ الحافز في الفؤاد؟
لمَ نبني جدارا دون أن ندري؟  لمَ لا ينطلق القلب و تنطلق الجوارح بعفويّة و إنسانيّة منبعها حبّ للخير و رغبة في تفريج الكرب ؟ و من وراء ذلك كلّه الطّمع في عفو اللّه و خير جزائه.

أن تكون متديّنا يعني أن تكون إنسانا تحرّكك إنسانيّتك قبل كلّ شيء. 

ها قد عدت لأتحدّث بضمير الجمع و لم أكتف بذلك، بل انتقلت إلى ضمير المخاطَب! 

 أراني لا أقدر أن أحمّل نفسي كلّ هذا العبء و التّقصير. اللّه المستعان... 

حيّيت ميشال على استحياء.
 لم تلحظ ذلك و حثّت خطاها لتواصل عملها، ثمّ اختفت. و بدأنا نحن جولتنا.


يتبع..

CONVERSATION

8 commentaires:

  1. أحببت ما كتبت
    كنت بش نكتب علاها و سبقتني :)
    رائعة تلك الميشال ^^
    نسأل الله أن يستخدمنا و لا يستبدلنا و أن يصلح سرائرنا

    RépondreSupprimer
    Réponses
    1. آمين يا ربّ العالمين
      ربّي يبارك فيك ^^

      Supprimer
  2. أثرت أسئلة غاية في الأهمية جزاك الله خيرا على تحسيسنا بالمسؤولية

    وكالعادة أسلوبك رائع وإحساسك أروع، دمت متميزة

    :*

    RépondreSupprimer
    Réponses
    1. و بالخير جازاك ^^

      عيش أختي، بارك اللّه فيك :))

      Supprimer
  3. السلام عليكم ورحمة الله

    كلّ من مرّ بالصحراء ربما يؤكّدون أن لا أزهار اعترضتهم

    وكيما قالت ماروكو : فعلا إنّ هذا العالم معقّد

    RépondreSupprimer
    Réponses
    1. و عليكم السلام و رحمة اللّه و بركاته
      ايه، انّه عالم معقّد جدّا
      xD و الدّليل، ما فهمتش تعليقك

      Supprimer
    2. الأزهار لا تنبت في الصحراء :D

      نبدأ باستصلاح الصحراء لو شاء الله ثمّ فلتزهر الأرض

      Supprimer

Back
to top