(حتّى يُغيّروا ما بأنفسهم (5/شهادة الزّور



قابلتها في عيادة أمراض المفاصل، كنت حينها مع عمّتي و كانت هي مع والدتها. لم أرها مُذ تزوّجت و أنجبت و فتحت عيادتها الخاصّة. تحدّثنا عن كلّ شيء،و كلّ شيء تعني ـ في معجم الأطبّاء ـ أحوال العمل و المرضى ثمّ الدّراسة ، و انعكاس أحوال العمل و المرضى و الدّراسة على أحوال العائلة و البيت.
قالت لي بأنّها أغلقت عيادتها و أنّها تُعدّ لاجتياز مناظرة الإختصاص. تفاجأت لقرارها و سألتها عن السّبب فأجابت: " معظم المرضى لا يأتونني للعلاج، و إنّما لاستلام شهادة طبّيّة يبرّرون بها غيابهم عن العمل (لأسباب غير صحّيّة طبعا). الجميع كان يعتقد أنّني سأسلّمها إيّاهم حتّى أجني المال و أكسب المزيد من "الزّبائن". "

و أيّ مال حرام هذا تتبعه لعنة و عذاب أليم ! تردّد في ذهني ذاك الحديث حين تكلّم عليه الصّلاة و السّلام عن أكبر الكبائر :" ... وَكَانَ مُتَّكِئًا ، فَجَلَسَ ، فَقَالَ : " أَلا وَقَوْلُ الزُّورِ ، وَشَهَادَةُ الزُّورِ ، أَلا وَقَوْلُ الزُّورِ ، وَشَهَادَةُ الزُّورِ " . قَالَ : فَمَا زَالَ يَقُولُهَا حَتَّى قُلْتُ : لا يَسْكُتُ .

و استرجعتُ ذكريات ليست ببعيدة، حين كنت طبيبة داخليّة في أحد المستوصفات. كان الفصل صيفا و الشّمس حارقة حين جاءت امرأة متأخّرة للعيادة، مرتدية ملابس النّوم ( كم أمقت تلك العادة! ) و على وجهها آثار مساحيق تجميل لم تُكلّف نفسها عناء إزالتها بعد حفل الزّفاف الّذي حضرَته.
اشتكت من آلام في رأسها و حنجرتها. و كان حدسي و دقّة نظري يُكذّبان فحوى شكواها. فحصتها بتأنّ كعادتي، فلم أجد شيئا و اكتفيتُ بإعطائها حبوبا مسكّنة للألم. لم تبالِ بذلك (ممّا زاد يقيني بكذبها)، لكنّها طالبتني بشهادة طبّيّة. سلّمت لها "شهادة حضور". نظرتْ إليها منزعجة، قطّبت جبينها و قلّصت أحبالها الصّوتيّة حتّى تزداد نبرتها حدّة: 
ـ أريد شهادة طبّيّة لأرتاح يوما كاملا.
ـ حالتك لا تستوجب ذلك.
ـ أنا أعمل إلى الواحدة بعد الزّوال و السّاعة الآن الحادية عشر. هل يُرضيك أن أذهب لأعمل ساعتين؟!
لم أستسغ كلامها البتّة و لا احتجاجها و لا نبرتها.
ـ هذا لا يعنيني. ليس من حقّي أن أعطيك ما تطلبين.
ـ كيف؟! (صائحة) الطّبيب الآخر يعطيني دائما ما أريد!
ـ لِكلٍّ مبادِئه.
ـ سأذهب إلى طبيب خاصّ و سيُسلّمني شهادة بمالي. لا حاجة لي بخدماتك.


كان "تهديدا" سخيفا، مضحكا.  وشعرت تجاهها بالإزدراء، و لكن أيضا تجاه ذاك الطّبيب الخاصّ الّذي تتحدّث عنه. ذلك الّذي يضع على مكتبه شهادات ممضيّة بها ختمه يسلّمها كيفما شاء لمن هبّ و دبّ.  و على الجدار حذوه إطار عريض كُتب فيه قسم الطّبيب. و ما أدراك ما قسم الطّبيب!  بكيتُ و ارتعد بدني و صوتي حين قرأته يوم تخرّجي، أحسست بثقل أُلقي على عاتقي حين "أقسمت بالله أن أكون مخلصة في عملي و متمسّكة بالنّزاهة و الشّرف.. أن لا أساهم و ألّا أشجّع على الجريمة و تدهور الأخلاق.." فما بالك بأكبر الكبائر !


ـ سيّدتي اذهبي حيث شئت. هذا دوائك و شهادة الحضور إن إحتجتهما.



ليست وحدها من "هدّدني" بمثل تلك التّرهات. تلك المرأة الكهلة خرجت ساخطة هي الأخرى في تلك اللّيلة. كانت السّاعة متأخّرة و كنت منهكة القوى في قسم الطّوارئ الخاصّ بالأطفال. جاءت مع حفيدها، "لديه حمّى و سعال منذ يومين." فحصت الصّغير و أعطيته الدّواء اللّازم، و هممت بإدخال المريض التّالي لولا أنّ الجدّة قاطعتني قائلة: "أريد شهادة لي لمدّة ثلاثة أيّام". أجبتها بهدوئي المعتاد حين أكون متعبة، كمن يلفظ أنفاسه: 
ـ سيّدتي، حفيدك هو المريض و ليس أنت. ثمّ إنّ هذا قسم استعجالي، و لا يسعني إلاّ أن أعطيك شهادة حضور لأنّك رافقته.
صاحت كمن اغتُصب حقّه و اعتُدي على كرامته من قبل شابّة تصغرها عقودا. 

ـ جميع الأطبّاء يفعلون ذلك! فلِمَ تعترضين؟!
لعنتُ "جميع الأطبّاء" ساعتها، و قلت بإصرار "لا يمكنني ذلك".
ـ أتعلمين ماهو عملي؟!
لم أُجبها، كان رأسي يؤلمني وصدى صياح عشرات الأطفال الّذين رأيتهم منذ المساء لا يزال يرنّ في أذني. لا يهمّني ماذا تعملين، و أين تقطنين و ما اسمك و أيّ طعام تطبخين...
واصلت كلامها بحنق:
ـ أنا أهتمّ بتنظيف المسجد، و دعوتي مستجابة. سأدعو عليك ليلا نهارا من داخل المسجد لأنّك رفضت مساعدتي. ستَريْن ! 
نظرت إليها مبتسمة، و كانت تتوقّع منّي أن أسارع بالتّوسّل إليها ألّا تفعل أو أن أعتذر أو أن أُذعَر من قوّاها الخارقة. لا أدري لما كانت تبدو واثقة من ذلك. ربّما بسبب حجابي و ما يخلق ذلك من أفكار مسبّقة سخيفة في بعض العقول السّطحيّة.
ـ يمكنك الدّعاء أين و كما شئت كما يمكنك الإنصراف فورا. لديّ الكثير من المرضى.



CONVERSATION

0 commentaires:

Enregistrer un commentaire

Back
to top