فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا/ الجزء الثّالث


( الجزء الأوّل و الثّاني )


بداية الجولة الصّباحيّة كانت مع "فرح"، رضيعة لم تتجاوز الشّهرين من العمر و كيلوغرامَيْن من الوزن. 
والدتها لم تكن تنتظر مجيئها إلى العالم. وُلدت قبل أوانها، مُصابة بمتلازمة داون (مرّة أخرى!) و تشوّه خِلقيّ في البُطين و صمّامات القلب. كانت تتنفّس بصعوبة و بالكاد تجد قوّة للرّضاعة.

أمّها امرأة  فقيرة بسيطة، وجهها  طيّب كَسَتْه سُمرة. لكنّها أيضا امرأة ذات خلق لم أرَ مثله منذ زمن. تسألني عن حال ابنتها فأحاول أن أجد أيسر و أخفّ العبارات فقد كان وضعها حرجا.
 كانت تجيبني بصبر "عجيب": " الحمد 
 لله على كلّ حال. ان كُتب لها البقاء فسوف تبقى إن شاء اللّه"
 أحاول مواساتها داعية لها بالصّبر و القوّة، فتفاجئني بمزيد من الرّضا: الحمد لله . 
الله سبحانه أنعم علينا بنعم كثيرة، أفأجحد نعمه عند البلاء؟! لا و الله !" 
كان هذا تقريبا آخر لقاء لي بها، أمام غرفة العناية المركّزة حيث كانت "فرح".

كان  ذلك الشّعاع اللّطيف الوحيد الّذي يداعبني وسط الأجواء المضطربة في القسم.. مضطربة بسبب كثرة المرضى (عافانا و عافاهم 
الله) و كثرة العاملين و الزّائرين في كلّ وقت دون نظام و لا احترام.

دخلتُ مكتب الناّظر حيث نلتقي جميعنا عادة بين الحين و الآخر. وجدت ثلّة من الزّملاء يناقشون ـ احزروا ماذا؟ـ الأوضاع السياسيّة في البلاد..
"فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا"، رنّت من جديد كصدى صوت داخل كهف. لا رغبة لي في خوض الحوارات العقيمة و التّحليلات الحلزونيّة المبنيّة غالبا على خلفيّات ايديولوجيّة و حقد أعمى لا أجد له إلى اليوم تفسيرا مقنعا.
إخترت الصّمت خاصّة و أنّني مصنّفة مُسبقا، بسبب لباسي ، ضمن فئة "العدوّ".
لا يعنيني رأيهم و لا تخمينهم. و لا أحد يمثّلني. 

عدت إلى البيت في قيظ الظهيرة.
 بالكاد أستطيع أن أفتح عينيّ. 
حمّام، صلاة،  ثمّ جلسة قصيرة أمام الحاسوب.
 هي جلسة ليس لها عادة نفع، لكنّها اللّعنة الزّرقاء! تطاردك و تجبرك على المرور أمام هذا الجهاز الصّغير قبل أن تنال قسطا من الرّاحة.

 على الفايسبوك، تجد كلّ أنواع الأخبار و الصّور، و التّعاليق الجدّيّة و خاصّة السّخيفة. أرتكب نفس الحماقة عديد المرّات: أقرأ ما يُسمّى ب"آراء الشباب"، فأصاب بحالة من الغثيان، كلام بذيء و مستوى دنيء ، نزول إلى ما تحت القاع.
ثمّ ألقي نظرة على صفحات بعض الأصدقاء علّي أسترجع الأمل بصلاح حالنا ، راجية أن لا يجذب أحد أطراف الحديث معي ، فلست في مزاج يسمح لي بذلك، ثمّ إنّني في رمضان .. 
توقّفت بُرهة أعاتب نفسي ـ ككلّ مرّةـ على الوقت الّذي ضيّعته و الطّاقة الّتي بدّدتُها فيما لا يعني.
أغلقتُ حسابي و حاسوبي.
"فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا"، كان ذاك شعاري..

يتبع..


ملاحظة: فرح تُوفّيت قبل أيّام العيد بقليل، أسأل الله أن يرحمها  و يكافئ أمّها على صبرها.




CONVERSATION

7 commentaires:

  1. في إنتظار الجزء التالي ، عيدك مبروك

    RépondreSupprimer
    Réponses
    1. مرحبا بيك ذو كينغ
      عيدك مبارك ^^

      Supprimer
  2. I'm addicted to your writings, keep up with the good work

    LAX :DDD

    Non pour de bon j'adore ce que tu écris, et cet épisode en particulier, c'est pas de toi que tu parles, c'est de nous tous, et comme l'on s'y retrouve !

    ربي يباركلك يا فنانة

    أحبك في الله

    <3

    "لا رغبة لي في خوض الحوارات العقيمة و التّحليلات الحلزونيّة المبنيّة غالبا على خلفيّات ايديولوجيّة و حقد أعمى لا أجد له إلى اليوم تفسيرا مقنعا.
    إخترت الصّمت خاصّة و أنّني مصنّفة مُسبقا، بسبب لباسي ، ضمن فئة "العدوّ".
    لا يعنيني رأيهم و لا تخمينهم. و لا أحد يمثّلني. "

    t'as tout dit, surtout ça : لا أحد يمثّلني

    RépondreSupprimer
    Réponses
    1. أهلا بك و بارك الله فيك :*
      أحبك الله الذي أحببتني فيه

      يسعدني مرورك و تعليقك و يسعدني أنك تقرئين و تحبين ما تقرئين :')
      و انت يا فنانة اشتقنا لكتاباتك
      ؛)

      و لاكس ، ربي يذكره بالخير :D

      Supprimer
  3. بورك قلمك ..
    أوافق الأخت إيمان فيما ذهبت إليه من أنّك فعلا لا تتحدّثين عن نفسك فحسب .. بل عنّي أيضا بشكل من الأشكال :)
    في انتظار البقيّة :))

    RépondreSupprimer
    Réponses
    1. ربي يبارك فيك
      يسعدني مرورك و تعليقك ^^

      Supprimer
  4. الاسلام جميل بأمثالها و أمثالك

    RépondreSupprimer

Back
to top