فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا/ الجزء الرّابع

ها نحن على طاولة العشاء في ساحة البيت. كم أحبّ تلك اللّحظات قُبَيْل الإفطار: الصّغار يلعبون، يقطفون زهر الياسمين، و صوت ترتيل القرآن ينبعث من المسجد البعيد في أعلى التّلّة.

ثمّ تأتي لحظات الدّعاء المستجاب، أدعو ما شاء الله  أن أفعل، و أحاول أن أتذكّر كلّ أمنياتي في بضع ثواني بينما يشرع إخوتي في الأكل. كلّ شيء يمرّ بسرعة، و بين الفينة و الأخرى يجب أن يترك أحدنا طعامه لينظر ما الأطفال الصّغار فاعلون في الحديقة. 

ثمّ يحين الموعد اليوميّ لتعاليق والدي أو أخي الأصغر: "الحساء ينقصه الملح، الدّجاج ليس مطهوّا كما يجب.. لو كنت أنا من يطبخ لرأيتنّ كم أضع من بهارات .."
رغم أنّني اعتدت سماع ذلك، لم يكن بوسعي أن أمنع نفسي من النّظر بحنق تجاه أخي. تلك النّظرة الثّاقبة من شأنها أن توقفه و لو للحظات عن كلامه. 


"لَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا".. 

لكنّي، حين أنظر إلى أمّي الّتي تبذل قصار جهدها لإرضائهم رغم حرارة الطّقس و المشاكل الصّحّيّة، لا أتمالك نفسي عن الردّ بنبرة آمرة: "افعل مثل رسولك عليه الصّلاة و السّلام: كُلْ أو
أصمت." 
و عادة ما تكون الإجابات من هذا النّوع: "لا تحبُّنَّ النّقد .. ليس هناك حرّيّة تعبير في هذا البيت!"
أبتسم بمكر، ابتسامة الشّرّيرة المنتصرة. لقد بلغتُ مرادي.
 
تنتهي الجلسة العائليّة باحتساء فنجان القهوة ثمّ ينطلق الكلّ إلى المسجد.

بعد السّلام أجلس في ركني المعتاد في المُصَلّى. أمسك مصحفي محاولة قدر الإمكان أن لا يزيغ بصري عنه.
"لَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا".. أوصتنا بذلك شيختنا: " المسجد بيت الله فلا تلغين فيه، القرآن كلام الله فلا ترفعن رؤوسكنّ عند تلاوته".. 

و يا ليت قومي يعلمون و يعملون. ترى 
المخالفة تلو المخالفة: عجوز تنادي قريبتها الّتي لم ترها منذ مدّة بأعلى صوتها، فهي لا تستطيع التّنقّل بين الصّفوف. امرأة تمسك هاتفها و  تتحدّث دون حرج . كهلتان تتنازعان حول كرسيّ. أخوات يتحدّثن ـ كالعادة ـ عن تحضيرات الزّفاف. 

أحاول التماس الأعذار لهنّ ففي زمن ما كنت أفعل شبه ما يفعلن، كانت صلاة التّراويح فرصة للقاء صديقات اشتقت إليهنّ..
 لكنّي هذه السّنة أخذت على نفسي عهدا بأن "لَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا"..

أذكر ذات ليلة كيف أنّ امرأة كهلة  أثناء صلاة التّراويح استوت و اعتدلت حذوي. و كم كان يسعدني حينها أن أرى نساء في مثل سنّها يتحمّلن طول القيام لنيل الثّواب. 

بدأت الصّلاة، و استرسلت الآيات عذبة بصوت جهوريّ ورع.. ثمّ
، فجأة، كانت "الصّدمة الأولى"، تثاءبت المرأة بصوت عال دون أيّ حرج. فقدتُ التّركيز لوهلة، و حاولت تشتيت الأفكار الشّرّيرة الّتي أخذت تتناقلها خلاياي العصبيّة.
غفرالله لي و لك سّيدتي.
بالكاد عدت للإستماع إلى الإمام حتّى كانت "الصّدمة الثّانية" : تجشّأت المرأة .و هنا ثارت ثائرتي. لطالما أقرفني ذلك، حتّى لو صدر من مريض في المستشفى بشكل "عفويّ". 
 ما هذا ؟ سأغيّر المكان بعد انتهاء الرّكعتين.
 لم أفِ بالوعد الّذي قطعته. راجعت نفسي: قد يسبّب ذلك لها إحراجا.

ثمّ تكرّر صنيعها مرّة أخرى و  كأنّ ذلك كان يريحها. لم أعد قادرة على التّركيز و وجدتُني أرغب في أن أنفجر غاضبة في وجهها.

 سجدنا.. حينها لم يعد دعائي العتق من النّار و لا الفوز بالجنّة و لكن دعاءً من وحي اللّحظة: اللّهمّ إنّي أعوذ بك من الكِبْر و الغضب، اللّهمّ اغفر لي و لها. اللّهمّ اجعلني من الكاظمين الغيظ و العافين عن النّاس..

و انتهت الصّلاة و كنت أنوي أن أتحدّث إليها بقدر ما أستطيع من لباقة و هدوء حول آداب المسجد .. لكنّ المرأة سبقتني قائلة:" لم أصلّ العِشاء لأنّني وصلت متأخّرة و صلاة التّراويح انتهت. لا داعي لآدائها الآن أليس كذلك؟"
"صلاة العشاء فرض يا سيّدتي، عليك قضاؤها.. "

لقد كانت جاهلة بأبسط التّفاصيل. امرأة بسيطة أرادت أن تنال الأجر رغم كلّ ما بدر منها. كيف لي أن أنزعج لهذه الدّرجة من تصرّفها؟ كيف فكّرت
أن أنهرها؟ 

تذكّرت حادثة الأعرابيّ الّذي تبوّل في المسجد النّبويّ و كيف كانت ردّة فعله صلّى الله عليه و سلّم..
أين أنا من هذا؟ 

غفر الله لي و لك سيّدتي .. 
"لَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا"
تركتُها  و انصرفت..



لا أدري إن كان سيُتبع
هذه المرّة أم لا  ..

CONVERSATION

8 commentaires:

  1. رب ضارة نافعة . جارتك في الصلاة قد ربحت منك الدعاء و النصيحة :D

    . تدويناتك رائعة . دمت متألقة :)

    RépondreSupprimer
  2. السلام عليكم :)
    ما شاء الله أسلوبك في التفكير وفي التدوين من أرقى ما قرأت.
    أرجو لك مزيدا من التألق والتوفيق يا أختي العزيزة ^^

    RépondreSupprimer
  3. ماشاء الله عليك مبدعة كعادته ليلي كم أغبط أسلوبك

    RépondreSupprimer
  4. شباش نقول؟ الجماعة سبقوني

    دمت كاتبة لأني أعشق كتاباتك :)

    (تحضيرات بالضاد :p)

    RépondreSupprimer
  5. و عليكم السّلام و رحمة اللّه و بركاته
    ربّي يبارك فيكم البنات،
    و ربّي يفرّحكم كيما فرّحتوني ^^
    دمتنّ قارئات وفيّات و كاتبات ملتزمات :))

    RépondreSupprimer
  6. ya3tik sa7a w rabi ybereklek lili <3

    RépondreSupprimer
    Réponses
    1. زارتنا البركة ! رّبي يحفظك أماني و يبارك لك ^^

      Supprimer

Back
to top