شرف المؤمن




إلتقينا في حفل زفاف إحدى الأخوات, كانت زميلتي خلال سنوات الدّراسة و صديقة مقرّبة إليّ، بيد أن الإتّصال قلّ بيننا بعد زواجها و انتقالها إلى حيّ آخر .
 تحدّثنا عن العمل و  الدّراسة و الإمتحانات ، حتّى مللنا. فقالت لي : لندع الأمور الدّنيويّة جانبا ... هيّا أخبريني كيف تقضّين يومك ؟

كانت هي لا تزال تعمل
, بينما أنهيت دراستي . كنت حينها ملازمة البيت، أستعدّ لإجراء مناظرة آخر السّنة ...

 
أجبتها بعفويّة : أدرس معظم الوقت، و أتابع آخر الأخبار عبر النّت و التّلفاز ... و أحيانا أقرأ بعض الكتب ..
ـ أنا أسألك عمّا تفعلينه من طاعات و نوافل
.أحرجني السّؤال بعض الشّيء، فلم أكن أفعل الكثير
ـ أصلّي بعض النّوافل ، أقرأ ما تيسّر من القرآن الكريم ... و أحيانا أستمع إلى درس مفيد ...
 توقّعت منها أن توبّخني, فقد كنت أعلم مدى حرصها على الصّيام و حفظ القرآن و العمل الدّعوي ... أحسست بصغري أمامها و أنا أسرد عليها ما أفعله, و حزّ في نفسي كيف أنّني خجلت منها و لم أخجل من اللّه السّميع الرّقيب! لم أنتظر ردّها فسألتها : و أنت ؟ حدّثيني عنك ؟

ـ أنا لست راضية عن نفسي
.
  ـ لِم ؟
ـ لم أعد مواظبة على قيام اللّيل
كان صوتها مرتعدا
، و اغرورقت عيناها بالدّموع . بدا لي أنها تبالغ في تحسّرها فحاولت مواساتها: 
 ـ لا تقسي على نفسك ، فأنت تعملين و تدرسين, لديك واجبات تجاه بيتك و زوجك، بالإضافة إلى حملك . ثم إنّك ، ما شاء اللّه، تحفظين القرآن، تصومين كلّ أسبوع، تلتزمين بحجابك الشّرعي رغم كل المضايقات و تقرئين الكتب المفيدة  ... أنا فعلا أغبطك!
ـ لا تبرّري تقصيري أرجوك
... أشعر بالألم حين أتذكّر كم كانت همّتي عالية و كيف صار حالي الآن ... كان زوجي يعود من العمل منهكا فينام بعمق , أوقظه فيغفو من جديد  ...
إبتسمت و كأنّها تتخيّله أمامها ثم استرسلت في الكلام
: يشفقني حاله, لكنّي كنت أتذكّر حديث الرّسول صلّى اللّه عليه و سلّم: "رَحِمَ اللَّهُ رَجُلا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّى ، وَأَيْقَظَ امْرَأَتَهُ فَصَلَّتْ ، فَإِنْ أَبَتْ نَضَحَ فِي وَجْهِهَا الْمَاءَ ، رَحِمَ اللَّهُ امْرَأَةً قَامَتْ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّتْ ، وَأَيْقَظَتْ زَوْجَهَا فَصَلَّى ، فَإِنْ أَبَى نَضَحَتْ فِي وَجْهِهِ الْمَاءَ" ) ) فأهمس في أذنه هذه الآية : {كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } [الذاريات:18,17]   فيهبّ مسرعا للوضوء و الصّلاة.

هزّتني كلماتها
، اقشعرّ بدني و احمرّ وجهي خجلا من نفسي . لِمَ لَمْ أفكر يوما في المواظبة على قيام اللّيل؟ لِم كان ذلك حكرا على العشر الأواخر من شهر رمضان ؟  ليس لديّ ما يشغلني سوى ... التّفاهات ! لِم كنت أعتبر ذلك من "الكماليّات" ؟ هل أنا في غنى عن ذلك ؟

 صلاة الليل ، تلك  السّنّة المؤكّدة التي غفل عنها الكثير ، دأب الصالحين و ملاذ المهمومين .

قال عليه الصّلاة والسلام: {عَلَيْكُمْ بِقِيَامِ اللَّيْلِ فَإنَّهُ دَأْبُ الصَّالِحِين قَبْلَكُمْ، وَقُرْبَةٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَمَكفَرَة للسَّيِّئات، وَمنْهَاة عَن الإِثْم، وَمَطْرَدة للدَّاء عَن الجَسَد } [رواه أحمد والترمذي وصححه الألباني 

كم أمضيت من ساعات أمام الحاسوب أشكو لصديقتي بعض المشاكل الدنيوية 
، بدل الخلوة باللّه و مناجاته.
  
قال عليه الصّلاة والسلام : { أتَانِي جِبريل فَقال: يا محمّد، عِش ما شئت فإّنَكَ ميّت، وأحبب من شئت فإنّك مفارقه، واعمل ما شئت فإّنك مجزى به، واعلم أن شرف المؤمن قيامه باللّيل، وعزّه استغناؤه عن النّاس } [رواه الحاكم والبيهقي وحسّنه المنذري والألباني].

 كيف نسيت أن أفضفض إليه سبحانه كل ما يخالجني  و هو اللّطيف الخبير الذي يسمع أنين المذنبين و دعاء المشتاقين و يرى الأكفّ المرتفعة إليه بالضراعة في جوف اللّيل  الحالك ؟

عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى اللّه عليه و سلّم قال : { يَتَنزَّل اللّهُ كلّ لَيْلَة إلَى سَماء الدُّنْيا حِين يَبْقى ثُلُث اللَّيل الآخر فَيَقُول : مَنْ يَدْعُوني فَأَسْتَجِيب لَه ومَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيه وَمَن يَسْتَغْفِرُني فَأَغْفِر لَه
 
كيف فرّطت طيلة هذا الوقت في مثل هذا الثّواب العظيم ؟ و لم ألبّي نداء الرّحمان الرّحيم ؟


قال النبي صلّى اللّه عليه و سلّم : { في الجّنّة غرفة يرى ظاهرها من بَاطِنها, وباطنها من ظاهرها } فقيل: لمن يا رسول الله؟ قال: { لِمَن أطاب الكلام، وأطْعَم الطَّعَام، وَبَاتَ قَائماً والنَّاس نِيَام } [رواه الطّبراني والحاكم وصحّحه الألباني].

أكان من الصّعب أن أواظب على الصّلاة و لو لربع ساعة قبل الفجر
، أتلو فيها و لو عشر آيات فأكون من المصطفين الّذين وقاهم اللّه سبحانه و تعالى من مصيبة الغفلة ؟ 

قال صلّى اللّه عليه و سلّم : { من قام بعشر آيات لم يُكتب من الغافلين، ومن قام بمائة آية كتب من القانتين، ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين } [رواه أبو داود وصححه الألباني].

نسأل اللّه أن نكون منهم و أن يجعلنا ممّن قال فيهم جلّ جلاله

:
أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} الزمر9 


قلت لليل : كم بصدرك سر أنبئني ما أروع الأسرار ؟

قال : ما ضاء في ظلامي سر كدموع المنيب في الأسحار
(عبد الوهاب عزام) 
  

CONVERSATION

0 commentaires:

Enregistrer un commentaire

Back
to top